فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{أيحسب الإنسان أن يُتْرك سُدى} أي مهملا فلا يكلف ولا يجزى وقيل أن يترك في قبره فلا يبعث ويقال إبل سدى أي مهملة ترعى حيث شاءت بلا راع وأسديت الشيء أي أهملته وأسديت حاجتي ضيعتها ولم أعتن بها قال الشاعر:
فاقسم بالله جهد اليم ** ين ما خلق الله شيئا سدى

ونصب {سدى} على الحال من ضمير {يترك} و{أن يترك} في موضع المفعولين لـ: {يحسب} والاستفهام إنكاري وكان تكريره بعد قوله تعالى: {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه} لتكرير إنكار الحشر قيل مع تضمن الكلام الدلالة على وقوعه حيث أن الحكمة تقتضي الأمر بالمحاسن والنهي عن القبائح والرذائل والتكليف لا يتحقق إلا بمجازاة وهي قد لا تكون في الدنيا فتكون في الآخرة وجعل بعضهم هذا استدلالا عقليا على وقوع الحشر وفيه بحث لا يخفى وقوله تعالى: {ألمْ يكُ نُطْفة مّن مّنِىّ يمنى} الخ.
استئناف وارد لإبطال الحسبان المذكور فإن مداره لما كان استبعادهم للإعادة دفع ذلك ببدء الخلق وقرأ الحسن {ألم تك} بباء الخطاب على سبيل الالتفات وقرأ الأكثر {تمنى} بالتاء الفوقية فالضمير للنطفة أي يمنيها الرجل ويصبها في الرحم وعلى قراءة الياء وهي قراءة حفص وأبي عمرو بخلاف عنه ويعقوب وسلام والجحدري وابن محيصن للمني.
{ثُمّ كان علقة} أي بقدرة الله تعالى كما قال تعالى: {ثم خلقنا النطفة علقة} [المؤمنون: 14] {فخلق} أي فقدر الله عز وجل بأن جعلها سبحانه مخلقة {فسوى} فعدل وكمل.
{فجعل مِنْهُ} أي من الإنسان وقيل من المني {الزوجين} أي الصنفين {الذكر والانثى} بدل من الزوجين والخنثى لا يعدوهما وقرأ زيد بن علي {الزوجان} بالألف على لغة بني الحرث بن كعب ومن وافقهم من العرب من كون ألمثنى بالألف في جميع حالاته.
{أليْس ذلِك} العظيم الشأن الذي أنشأ هذا الإنشاء البديع {بِقادِرٍ} أي قادرا وقرأ زيد يقدر مضارعا {على أن يُحْيِى الموتى} وهو أهون من البدء في قياس العقل وقرأ طلحة بن سليمان والفيض بن غزوان {على أن يحيى} بسكون الياء وأنت تعلم أن حركاتها حركة إعراب لا تنحذف إلا في الوقف وقد جاء في الشعر حذفها بدونه وعن بعضهم يحيى بنقل حركة الياء إلى الحاء وإدغام الياء في الياء قال ابن خالويه لا يجيز أهل البصرة سيبويه وأصحابه إدغام يحيى قالوا لسكون الياء الثانية ولا يعتدون بالفتحة فيها لأنها حركة إعراب غير لازمة والفراء أجاز ذلك واحتج بقوله تمشي بشدة فتعي يريد فتعايا وبالجملة القراءة شاذة وجاء في عدة أخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال: «سبحانك اللهم وبلى» وفي بعضها «سبحانك فبلى» وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ منكم {والتين والزيتون} فانتهى إلى آخرها {أليْس الله بِأحْكمِ الحاكمين} [التين: 1-8] فليقل بلى {وأناْ على ذلكم مّن الشاهدين} ومن قرأ {لا أُقْسِمُ بِيوْمِ القيامة} [القيامة: 1] فانتهى إلى {أليْس ذلِك بقادر على أن يُحْيِى الموتى} فليقل بلى ومن قرأ {والمرسلات} فبلغ {فبِأيّ حديث بعْدهُ يُؤْمِنُون} [المرسلات: 50] فليقل آمنا بالله». اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أيحسب الإنسان أنْ يُتْرك سُدى (36)}
استئناف ابتدائي عاد به الكلام إلى الاستدلال على إمكان البعث وهو ما ابتُدئ به فارتبط بقوله: {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه} [القيامة: 3] فكأنه قيل: أيحسب أن لن نجمع عظامه ويحسب أن نتركه في حالة العدم.
وزيد هنا أن مقتضى الحكمة الإلهية إيقاعُه بقوله: {أن يُترك سُدى} كما ستعلمه.
والاستفهام إنكاري مثل الذي سبقه في قوله تعالى: {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه} [القيامة: 3].
وأصل معنى الترك: مفارقة شيء شيئا اختيارا من التّارك، ويطلق مجازا على إهمال أحد شيئا وعدم عنايته بأحواله وبتعهده، وهو هنا مستعمل في المعنى المجازي.
والمراد بما يترك عليه الإنسان هنا ما يدل عليه السياق، أي حال العدم دون إحياء مما دل عليه قوله تعالى: {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه} [القيامة: 3] وقوله: {يُنبّأُ الإنسان يومئذٍ بما قدّم وأخر} [القيامة: 13].
وعُدل عن بناء فعل {يترك} للفاعل فبني للنائب إيجازا لأجل العلم بالفاعل من قوله السابق: {أن لن نجمع عظامه} فكأنه قال: أيحسب الإنسان أن نتركه دون بعث وأن نهمل أعماله سدى.
فجاء ذِكر {سُدى} هنا على طريقة الإِدماج فيما سيق له الكلام، إيماء إلى أن مقتضى حكمة خلق الإنسان أن لا يتركه خالقه بعد الموت فلا يحييه ليجازِيه على ما عمِله في حياته الأولى.
وفي إعادة {أيحسب الإنسان} تهيئة لما سيعقب من دليل إمكان البعث من جانب المادة بقوله: {ألم يك نطفة} [القيامة: 37] إلى آخر السورة.
فقوله: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى} تكرير وتعداد للإِنكار على الكافرين تكذيبهم بالعبث، ألا ترى أنه وقع بعد وصف يوم القيامة وما فيه من الحساب على ما قدّم الإنسان وأخّر.
ومعنى هذا مثل قوله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون} [المؤمنون: 115].
و{سُدى} بضم السين وبالقصر: اسم بمعنى المهمل ويقال: {سدى} بفتح السِّين والضمُّ أكثر وهو اسم يستوي فيه المفرد والجمع يقال: إبل سُدى، وجمل سُدى ويشتق منه فعل فيقال: أسْدى إبله وأسديت إِبلي، وألفه منقلبة عن الواو.
ولم يفسر صاحب (الكشاف) هذه الكلمة وكذلك الراغب في المفردات ووقع {سُدى} في موضع الحال من ضمير {يُترك}.
فإن الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم وأبدع تركيبه ووهبه القوى العقلية التي لم يعطها غيره من أنواع الحيوان لِيستعملها في منافع لا تنحصر أو في ضد ذلك مِن مفاسد جسيمة، لا يليق بحكمته أن يهمله مثل الحيوان فيجعل الصالحين كالمفسدين والطائعين لربهم كالمجرمين، وهو العليم القدير المتمكن بحكمته وقدرته أن يجعل إليهِ المصير، فلو أهمله لفاز أهل الفساد في عالم الكساد، ولم يلاق الصالحون من صلاحهم إلاّ الأنكاد، ولا يناسب حكمة الحكيم إهمال الناس يهِيمُون في كل وادي، وتركُهم مضربا لقوللِ المثل (فإنّ الريح للعادِي).
ولذلك قال في جانب الاستدلال على وقوع البعث {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه} [القيامة: 3]، أي لا نعيد خلقه ونبعثه للجزاء كما أبلغناهم، وجاء في جانب حكمته بما يشابه الأسلوب السابق فقال: {أيحسب الإنسان أن يُترك سُدى} مع زيادة فائدة بما دلت عليه جملة {أن يترك سدى}، أي لا يحسب أنه يترك غير مرعِيّ بالتكليف كما تُترك الإِبل، وذلك يقتضي المجازاة.
وعن الشافعي: لم يختلف أهل العلم بالقرآن فيما علمتُ أن السُّدى الذي لا يؤمر ولا ينهى اهـ.
وقد تبين من هذا أن قوله: {أن يترك سدى} كناية عن الجزاء لأن التكليف في الحياة الدنيا مقصود منه الجزاء في الآخرة.
{ألمْ يكُ نُطْفة مِنْ منِيٍّ يُمْنى (37)}
استئناف هو علة وبيان للإِنكار المسوق للاستدلال بقوله: {أيحسب الإنسان أن يُترك} [القيامة: 36] الذي جعل تكريرا وتأييدا لمضمون قوله: {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه} الآية، أي أنّ خلق الإنسان من مادة ضعيفة وتدرجه في أطوار كيانِهِ دليل على إثبات القدرة على إنشائه إنشاء ثانيا بعد تفرق أجزائه واضمحلالها، فيتصل معنى الكلام هكذا: أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه ويُعد ذلك متعذرا.
ألم نبْدأ خلقه إذْ كوّنّاه نطفة ثم تطوّر خلقُه أطوارا فماذا يعجزنا أن نعيد خلقه ثانيا كذلك، قال تعالى: {كما بدأنا أول خلق نعيده} [الأنبياء: 104].
وهذه الجمل تمهيد لقوله: {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى}.
وهذا البيان خاص بأحد معنيي التّرك في الآية وهو تركه دون إحياء وأكتفي ببيان هذا عن بيان المعنى الآخر الذي قيّده قوله: {سُدّى} [القيامة: 36] أي تركه بدون جزاء على أعماله لأن فائدة الإِحياء أن يجازى على عمله.
والمعنى: أيحسب أن يترك فانيا ولا تجدد حياته.
ووقع وصف {سدى} في خلال ذلك موقع الاستدلال على لزوم بعث الناس من جانب الحكمة، وانتُقل بعده إلى بيان إمكان البعث من جانب المادة، فكان وقوعه إدماجا.
فالإنسان خُلق من ماء وطُوِّر أطوارا حتى صار جسدا حيّا تامّ الخلقة والإِحساسسِ فكان بعضه من صنف الذكور وبعضه من صنف الإِناث، فالذي قدر على هذا الخلق البديع لا يعجزه إعادة خلق كل واحد كما خلقه أول مرة بحكمة دقيقة وطريقة أخرى لا يعلمها إلاّ هو.
والنُطفة: القليل من الماء سمي بها ماء التناسل، وتقدم في سورة فاطر.
واختلف في تفسير معنى {تُمنى} فقال كثير من المفسرين معناه: تراق.
ولم يُذكر في كتب اللغة أن فعل: منى أو أمْنى يطلق بمعنى أراق سوى أن بعض أهل اللغة قال في تسمية (مِنى) التي بمكة إنها سميت كذلك لأنها تُراق بها دماء الهدي، ولم يبينوا هل هو فعل مجرد أو بهمزة التعدية.
وأحسب هذا من التلفيقات المعروفة من أهل اللغة من طلبهم إيجاد أصل لاشتقاق الأعلام وهو تكلف صراح، فاسم (مِنى) علم مرتجل، وقال ثعلب: سميت بذلك من قولهم: منى الله عليه الموت، أي قدّره لأنها تنحر فيها الهدايا ومثله عن ابن شميل وعن ابن عيينة.
وفسر بعضهم {تُمنى} بمعنى تخلق من قولهم منى الله الخلق، أي خلقهم.
والأظهر قول بعض المفسرين أنه مضارع أمنى الرجل فيكون كقوله: {أفرأيتم ما تُمْنُون} في سورة الواقعة (58).
والعلقة: القطعة الصغيرة من الدم المتعقد.
وعطف فعل {كان علقة} بحرف {ثم} للدلالة على التراخي الرتبي فإنّ كوْنه علقة أعجب من كونه نطفة لأنه صار علقة بعد أن كان ماء فاختلط بما تفرزه رحم الأنثى من البويضات فكان من مجموعهما علقة كما تقدم في فائدة التقييد بقوله في سورة النجم (46) {من نطفة إذا تمنى}.
ولما كان تكوينه علقة هو مبدأ خلق الجسم عطف عليه قوله: {فخلق} بالفاء، لأن العلقة يعقبها أن تصير مضغة إلى أن يتم خلق الجسد وتنفخ فيه الروح.
وضمير {خلق} عائد إلى {ربك} [القيامة: 30].
وكذلك عطف {فسوّى} بالفاء.
والتسوية: جعل الشيء سواء، أي معدلا مقوما قال تعالى: {فسواهن سبع سماوات} [البقرة: 29] وقال: {الذي خلق فسوى} [الأعلى: 2]، أي فجعله جسدا من عظم ولحم.
ومفعول {خلق} ومفعول {سوى} محذوفان لدلالة الكلام عليهما، أي فخلقه فسوّاه.
وعُقب ذلك بخلقه ذكرا أو أنثى زوجين ومنهما يكون التناسل أيضا.
وقرأ الجمهور {تُمنى} بالفوقية على أنه وصف ل {نطفة}.
وقرأه حفص ويعقوب بالتحتية على أنه وصف {منِيّ}.
وجملة {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} واقعة موقع النتيجة من الدليل لأن خلق جسم الإنسان من عدم وهو أمر ثابت بضرورة المشاهدة، أحق بالاستبعاد من إعادة الحياة إلى الجسم بعد الموت سواء بقي الجسم غير ناقص أو نقص بعضُه أو معظمه فهو إلى بثثِ الحياة فيه وإعادةِ ما فنِي من أجزائه أقرب من إيجاد الجسم من عدم.
والاستفهام إنكار للمنفي إنكار تقرير بالإِثبات وهذا غالب استعمال الاستفهام التقريري أن يقع على نفي ما يراد إثباته ليكون ذلك كالتوسعة على المقرّر إن أراد إنكارا كناية عن ثقة المتكلم بأن المخاطب لا يستطيع الإِنكار.
وقد جاء في هذا الختام بمحسّن ردّ العجز على الصدر، فإن السورة افتتحت بإنكار أن يحسب المشركون استحالة البعث، وتسلسل الكلام في ذلك بأفانين من الإِثبات والتهديد والتشريط والاستدلال، إلى أن أفضى إلى استنتاج أن الله قادر على أن يحيي الموتى وهو المطلوب الذي قدم في قوله: {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوّي بنانه} [القيامة: 3، 4].
وتعميم الموتى في قوله: {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} بعد جريان أسلوببِ الكلام على خصوص الإنسان الكافر أو خصوص كافر معيّن، يجعل جملة {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} تذييلا. اهـ.